في الأيّام والأسابيع القليلة الماضية شهد لبنان ثلاث محطّات مُهمّة على مُستوى عودة قسم من النازحين السوريّين إلى بلادهم، بدأت بانتقال نحو 50 عائلة سوريّة من مخيّمات النازحين في عرسال إلى منطقة "عسال الورد" السوريّة والقلمون الغربي في حزيران الماضي، وإستمرّت مع مُغادرة آلاف المدنيّين السوريّين برفقة مجموعة من مُسلّحي "جبهة النصرة" إلى محافظة إدلب شمال سوريا مطلع آب الحالي، وُصولاً إلى مُغادرة آلاف المدنيّين مع مُسلّحي "سرايا الشام" جرود عرسال نحو بلدة الرحيبة في القلمون الشرقي. فهل محطات العودة المُتفرّقة هذه ستفتح الباب أمام تحرّك جَماعي ومُنظّم للنازحين السوريّين في لبنان، نحو قراهم وبلداتهم ومدنهم في سوريا في المُستقبل القريب؟.
على المُستوى النظري، أغلبيّة المواقف السياسيّة والإعلاميّة الصادرة عن الأحزاب والشخصيّات السياسيّة اللبنانيّة تُطالب بعودة النازحين، وبعض الأصوات المُطالبة بالعودة ترجع إلى بداية أزمة النزوح، في حين أنّ بعض الأصوات الأخرى إلتحقت أخيرًا بهذه المَوجة، بعد أن بلغت التأثيرات السلبيّة للاجئين السوريّين على لبنان واللبنانيّين مُستويات غير مسبوقة، على صعيد كل من الضغط السُكاني، والتغيير الديمغرافي والثقافي والإجتماعي، وإستهلاك الموارد الطبيعيّة، والمُنافسة المهنيّة غير الشرعية، ونسب الجرائم، إلخ. لكن حتى اليوم لم يتمّ إتخاذ أي إجراء عملاني وجدّي للشروع في إعادة النازحين، في ظلّ فوضى كبيرة في إقامة المخيّمات العشوائيّة على مشاعات أو أراض تعود ملكيّتها للدولة أو للبلديّات، وفي ظلّ عدم تغطية الإحصاءات الدَوريّة التي تقوم بها مُفوّضيّة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، لكامل أعداد النازحين السوريّين الذين يعيشون في لبنان حاليًا، بل نحو 80 % منهم تقريبًا، في أفضل الأحوال. ومن بين أبرز الأسباب التي لا تزال تحول دون أي عودة مُنظّمة للنازحين، يُمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: النازحون السوريّون في لبنان ينقسمون إلى أربع فئات، وهم بأغلبيّتهم لا يُريدون العودة طوعًا: الفئة الأولى مُؤيّدة للنظام السوري وهي تعيش في لبنان لأسباب إقتصاديّة، ولا تريد العودة إلى ديارها على الرغم من أنّها تتوجّه إلى سوريا بين الحين والآخر لكن إقامتها الأساسية صارت في لبنان لضرورات مهنيّة ومعيشيّة، والثانية مُعارضة للنظام وترفض كليًا العودة خوفًا على حياتها، والثالثة تسعى للهجرة إلى مُطلق أي دولة أجنبيّة ما أن تسنح لها الفرصة وهي تعيش في لبنان حاليًا على هذا الأمل علمًا أنّها تستفيد من خدمات المنظّمات الدَوليّة، والفئة الرابعة مُحايدة وقد هربت من مآسي الحرب وتأقلمت مع نمط حياتها الجديد في لبنان وهي لن تعود إلا إذا جرى ضمان مصيرها وفرص عملها وحياتها الروتينيّة.
ثانيًا: السُلطة السياسيّة في لبنان لا تزال مقسومة بشكل خطير إزاء ملفّ النازحين، وسُبل مُعالجته، حيث يُطالب البعض بالتنسيق مع السُلطات السوريّة لمُعالجة هذا الموضوع، بينما يرفض آخرون هذا الأمر بالمُطلق. وهذا الإنقسام جعل ملفّ النازحين بحكم المُجمّد حتى إشعار آخر، الأمر الذي سمح بتفاقمه من دون أيّ رادع منذ ست سنوات حتى اليوم، والمُستغرب أنّ أيّ حوار داخلي لبناني للتوافق على خريطة طريق واضحة وجدّية لمُعالجة هذا الأمر لم تتمّ حتى تاريخه.
ثالثًا: السُلطة السياسيّة في سوريا تُواجه مُشكلة نازحين غير محصورة ببلد واحد، بل تشمل كل دول الجوار مثل لبنان والأردن وتركيا وحتى العراق، وُصولاً إلى دول العالم أجمع، مع تقديرات بأنّ عدد السوريّين الذين فرّوا من سوريا منذ إندلاع الحرب لا يقلّ عن ستة ملايين نسمة. وبالتالي، السُلطة السوريّة غير مُتحمّسة على الإطلاق في هذه المرحلة لتحمّل أعباء عودة هؤلاء النازحين، خاصة وأنّ مُعظمهم ليسوا من مُؤيّدي النظام، لذلك لا تُوجد أي إجراءات سوريّة جدّية لمُعالجة مُشكلة الشعب السوري المُشتّت في العالم أجمع، بل مُجرّد دعوات إعلاميّة للعودة لا تُقدّم ولا تُؤخّر.
رابعًا: تؤكّد الأمم المتحدة أنّها ترفض مُمارسة أيّ ضُغوط على اللاجئين لفرض عودتهم بالقوّة إلى بلادهم، في حين تعتبر الدول الكبرى المؤثّرة في الحرب السوريّة أنّ الوقت لم يحن بعد لمُعالجة مُشكلة النازحين، باعتبار أنّ هذه المُشكلة هي واحدة من المشاكل العديدة المُتفرّعة من الحرب السورية. وبالتالي، إنّ حلّ مُشكلة اللاجئين بالتحديد مُرتبط بالتوصّل إلى حلّ نهائي لمُجمل الأزمة السوريّة، خاصة وأنّها من أصعب المشاكل الناتجة من الحرب ومن أكثرها تعقيدًا.
في الخلاصة، إنّ دفعات النازحين التي توجّهت إلى سوريا في الأيّام والأسابيع القليلة الماضية، لا تُمثّل بادرة حلّ لأزمة اللاجئين ككلّ، إنّما مجرّد حلول جزئيّة جرى التوافق بشأنها ضُمن تسويات محدودة في المكان والزمان. وبالتالي يُمكن القول إنّ أبواب العودة الشاملة والمُنظّمة أمام النازحين السوريّين لم تُفتح بعد، للأسف الشديد، مع توقّع نجاح بعض مُبادرات العودة المُتفرّقة والجزئيّة بين الحين والآخر، في إنتظار الحلّ الشامل للأزمة السوريّة.